منذ بدء النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبح الصحفيون في السودان معرضين لأنواع مختلفة من انتهاكات حقوقهم، بما في ذلك الضرب والاعتقال والخطف والتعذيب والتهديد وتدمير معداتهم. وأصبحت مهنة الصحافة تشكل خطرًا كبيرًا على حياة الصحفيين، إذ يعارض الطرفان النزاعان وجود الصحفيين الذين يكشفون وينقلون الجرائم التي يرتكبونها ضد المدنيين الأبرياء. ولذا، يتم ترهيب الصحفيين بأشكال مختلفة لإجبارهم على التوقف عن ممارسة عملهم، ليتمكن الأطراف المتحاربة من ارتكاب جرائمهم بعيدًا عن أعين وكاميرات الصحفيين.
تواصلنا مع عدد من الصحفيين السودانيين الذين يعملون في الميدان، وأخبرونا بالقصص المروعة التي عاشوها بسبب عملهم أو هويتهم كصحفيين.
“قتلوا ١١ شخصًا من عائلتي”
إنعام النور، صحفية مستقلة ومناضلة تغطي الانتهاكات الجنسية أثناء الحروب والصراعات، عاشت تجارب مرعبة بسبب دورها الإعلامي، حيث كانت توثق انتهاكات خطيرة ترتكبها قوات الاستخبارات السرية.
تقول إنعام في مقابلة مع قناة VICE العربية أنها تعرضت لانتهاكات كبيرة منذ بداية الحرب. فقد قامت قوات الدعم السريع بتمركز عناصر عسكرية أمام منزلها لرصد حركاتها، مما اضطرها لمغادرة منزلها قبل حادثة الجنينة بيوم واحد. ومع ذلك، بدأت المأساة الحقيقية بوصول قوات الدعم السري وبعض الميليشيات العربية إلى المدينة، حيث كانت تعيش في إحدى الأحياء الأكثر تضرراً. تعرض الصحفيين والنشطاء والمحامين وحتى الأطباء لاستهداف متعمد، وتم إعداد قوائم بها أسماء الأفراد المستهدفين، ومن بين تلك القوائم كانت إنعام.
تعرض منزل عائلتها للهجوم، حيث تم تدميره ونهبه ومن ثم إحراقه. لم يتوقف العنف عند هذه المرحلة. في اليوم الأول من الحرب، تم قتل شقيقها الأكبر وابن عمها وأفراد آخرون من عائلتها الموسعة. وانتهت الأمور في ذلك اليوم بقتل سبعة من أفراد عائلتها. في الأيام التالية، شهدت إنعام زيادة عدد القتلى في عائلتها إلى ١١ شخصًا، وآخرهم زوج أختها.
بعد هذه المجزرة، فرت إنعام وأفراد آخرون من عائلتها إلى الأحياء الشمالية. بينما كانوا هناك، تلقت تقارير عن حالات اغتصاب مرتبطة بالعنف في دارفور، وتواصلت مع نحو ١٢ ضحية وسجلت تجاربهم. ومع ذلك، تلقت اتصالاً هاتفيًا تهديدًا يحذّرها من نشر أي معلومات عن حوادث الاغتصاب. أوضح المتصل أنهم يعلمون مكانها ويمكنهم الوصول إليها.
قالت إنعام: “حدث انفجار في البيت الجديد الذي نقلنا إليه بعد حرق المنزل، تسبب في كسر جدار وإصابة والدي في رأسه وأصيبت أنا أيضًا في ساقي، والحمد لله لم تكن الإصابات خطيرة. بعد يومين، خرجت مثل عادتي في الصباح الباكر، حوالي الساعة السابعة، لشراء الخبز من المخبز المجاور لنا قبل أن ينفد، بسبب نقصه، ولكن فوجئت بأن الشارع خالي من أي شخص على الرغم من أن المخبز مفتوح. توجهت لأنادي شخصًا في الداخل، وفي ذلك الوقت توقفت سيارة، وعندما التفت لأرى ما يحدث، نزل الناس منها وقاموا بضربي على رأسي حتى فقدت الوعي.”
وصفت إنعام كيف تمت نقلها إلى غرفة مظلمة حيث تم احتجازها والتعرض لهجوم من قبل أشخاص مقنعين يطالبونها بأن تريهم تقاريرها حول حوادث الاغتصاب. تعرضت أيضًا لتحطيم لابتوبها وكاميراتها عندما قاومتهم. احتملت عدة أيام من الاعتداء الجسدي والتهديدات.
ومع ذلك، لا يزال الرعب قائماً هنا، حيث تحكي إنعام عن رحلتها في الهروب مع مجموعات التهريب ومرورها من خلال العديد من نقاط التفتيش التي يسيطر عليها قوات الدعم السري.
تقول إنعام: “في وقت متأخر من الليل، تم أخذي ورميّ في نفس المكان الذي خُطِفت منه. بقيت هناك حتى الساعة الخامسة صباحًا، ثم فتحت عيني ورأيت بعض الرجال القادمين للصلاة، ولم يتعرفوا عليّ لأنني كنت غريبة في هذه المنطقة، إلا أن أحدهم أخذني إلى منزله واهتم بي، وقدم بناته الرعاية اللازمة لي، وكذلك جاء الطبيب وعالجني حتى استعدت قليلاً، ثم أخبرتهم بطول هويتي. ومن ثم أُعيدوني إلى بيتنا، حيث وجدت والدي يشعر بالكرب الناجم عن الخوف عليّ وقد اصر على أننا نترك مدينة الجنينة. وفي هذا الوقت كنت غير قادرة على المشي، لذا طلبت منه أن يمنحني بعض الوقت لاستعادة قوتي ومن ثم نقوم بالمغادرة. كنت خائفة من الرحلة لأنه إذا تعرضت للاعتراض من جانب قوات الدعم السريع على الطريق واكتشفوا أنني ناويّة على المغادرة، سيرتدون قتلي لانهم يخشون أن اكشف عن انتهاكاتهم، ولكن والدي أصر.”.
فرّت إنعام إلى الحدود التشادية مع والدها وتم نقلها إلى المستشفى حيث تم إجراء فحوصات لها. على الرغم من أنها تتعافى من الضرر الذي تسببت فيه عناصر من قوات الدعم السريع، إلا أنها لا تزال تعاني من الآثار العاطفية والنفسية لهذه التجربة.
اعتقال وتعذيب لأسبوعين
ربيع محمد، مصور صحفي يعمل في الخرطوم، تعرض لأفعال التعذيب والاعتقال بسبب عمله، وفي الوقت الحالي هو مهجّر في إحدى المناطق في السودان، ولا يعلم ما الذي سيحدث له وهل هو وعائلته في مأمن.
يروي ربيع قائلاً: “مع بداية الأحداث، كنت أخرج وأتجول وأرصد ما يحدث حتى تدهور الوضع وأصبح من الصعب الخروج بعد انتشار قوات الدعم السريع بكثرة في منطقتنا بحي النصر في شرق النيل. بقينا محاصرين في منازلنا بسبب المواجهات العنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى السلوك السيء والغير أخلاقي الذي يمارسه قوات الدعم السريع تجاه المواطنين من سرقة ونهب وترهيب. في هذا الوضع، اضطررت إلى استخدام طائرة درون التي اعتمدت عليها دائمًا في التغطية الإعلامية لمراقبة الدمار الذي يحدث والأحداث الجارية في الحي، ولمعرفة الطرق الآمنة لجلب أغراض المنزل بسبب صعوبة التنقل.”
تم القبض على ربيع في منزله بسبب الاشتباكات العنيفة بين الجيش والقوات المسلحة، ولذا لم يكن لديه القدرة على مغادرة المنزل لتصوير الأحداث. بالتالي، اضطر إلى استخدام طائرة بدون طيار لتوثيق حالات سرقة المواطنين على الطرق ونهب المنازل من قبل القوات الداعمة السريعة وبعض المواطنين. ومع ذلك، كان لهذا الاختيار ثمنه.
يضيف ربيع: “في إحدى المرات، يظهر أن قوات الدعم السريع لاحظت الطائرة بدون طيار التي كنت أستخدمها عن طريق الإنذار الموجود فيها، وتتبعوها حتى وصلت إلى منزلي، ثم اقتحموا المنزل بعنف من قبل مجموعة مسلحة، واتهموني بتهم عديدة. ادعوا أنني جاسوس وأعمل في المخابرات العسكرية، على الرغم من أنني قد أظهرت لهم بطاقتي الصحفية. طلبت منهم التصوير ولكنهم رفضوا وقالوا إنه مزيف.”
تمت مداهمة منزلي وتكسير كافة محتوياته أمام زوجتي وأطفالي، حتى تمكنوا من العثور على الطائرة بدون طيار ومشاهدة الفيديوهات المخزّنة في الذاكرة. بعدها، تعرضت لضرب عنيف أمام عائلتي وتعرضت للشتائم. ثم قاموا بأخذي معصّب العينين إلى مكان أدركت فيما بعد أنه يعرف باسم معسكر الرياض في الخرطوم.
لقد قضى ربيع فترة احتجاز داخل السجن لمدة اسبوعين، حيث تعرض لأنواع مختلفة من التعذيب التي لا تزال آثارها موجودة على جسده، دون أن يعلم أي شيء عن عائلته الصغيرة. وبعد مرور الأسبوعين من الخوف والترويع والضرب والإهانة، قدم ضابط يبين أنه من جهاز الاستخبارات للتحقيق معه.
يقول ربيع: “أخبروني أنهم كانوا يراقبون منزلي وأنشطتي لفترة من الزمن. حاولت أن أوضح لهم أنني مصور صحفي محترف وأنني استخدم الطائرة بدون طيار في تغطيتي الإعلامية. في هذه اللحظة، قاموا بفحص بطاقة الصحفي وأخبروني أنهم سيتركونني، ولكن سيصادرون الطائرة بدون طيار. كان ذلك صادمًا بالنسبة لي، فأخبرتهم أن الطائرة بدون طيار هي مصدر رزقي وتكلفتها خمسة آلاف دولار، لكنهم لم يهتموا وقالوا ببرودة إنهم سيصادرونها.”
وبعد تحمل الكثير من المشقة، تم الإفراج عنه حقًا، وتواصل مباشرة مع عائلته، واكتشف بأنهم سافروا بمساعدة الجيران إلى ولاية الجزيرة. سافر إليهم هناك والآن يخشى العودة وممارسة مهنته كمصور صحفي محترف، خوفًا من تكرار سيناريو الرعب الذي عاشه مرة أخرى.
في النهاية، تم إفراج ربيع بعد معاناة عظيمة وتواصل مع عائلته ليجد أنهم هاجروا بمساعدة الجيران إلى ولاية أخرى. قرر الانضمام إليهم هناك، ولكنه الآن يخشى استئناف عمله كمصور صحفي محترف خوفًا من تكرار مشهد الرعب الذي عاشه.
ضرب وشتم وترهيب
يقول محمد النويري، صحافي ومدير إنتاج إعلامي في الخرطوم، إن الصحافيين في السودان يواجهون العديد من التحديات من قبل قوات الدعم السريع أثناء تغطيتهم للحرب. يحاولون تجنب الإعلان عن مهنتهم ويعملون عبر بعض المصادر.
يروي النويري: “في البداية، كنت أظن أن مهنتي كصحافي ستحميني، ولذلك، فور احتجازي من قبل بعض عناصر قوات الدعم السريع، أخبرتهم أنني صحافي وأنني أقوم بمهامي في نقل الأحداث. ومع ذلك، تعرضت للضرب بوحشية وتم اقتيادي إلى مكان الاحتجاز في منطقة كافوري بضواحي الخرطوم”.
إن المكان المتواجد فيه معزول وغير صالح تمامًا لأية إقامة لأي إنسان، وتعرضت لمعاملة سيئة تضمنت الضرب والشتم حتى وصول أحد الضباط الذي سأل عن مجموعته واستفسر عن تهمتي. أخبروه بأنني أنتمي لمخابرات الجيش. بقيت قيد الاعتقال لمدة ١٢ ساعة تحت سوء المعاملة، ثم جاء الضابط لاستجوابي حيث قدمت له وثائق شخصية تثبت أنني صحافي ومدير شركة إنتاج إعلامي. اعتذر لي الضابط وأخبرني أن الظروف لا تسمح بالنقل الصحفي وأن قوانين الحرب تختلف عن القوانين المدنية، وأخذ تعهدًا مني بعدم نشر أي شيء بخصوص اعتقالي، ثم تم الإفراج عني.
بعدما تم الإفراج عنه، عاد النويري إلى منزله، ولكنه لم يتمكن من العودة إلى عمله بسبب مخاوفه من أن يتعرض للاستهداف. يحاول النويري قدر المستطاع عدم مغادرة المنطقة المتمركز بها النزاع في الخرطوم، وذلك بسبب صفته الصحفية التي تعرضه للخطر. كما يحاول النويري مثل معظم الصحفيين أن يختبئوا على أمل انتهاء الحرب في وقت قريب.
هل سيكون هناك أي تغييرات للصحفيين؟
“صحافيون سودانيون يدعون الجيش السوداني والدعم السريع لوقف انتهاكاتهم ضد الإعلام وتسهيل وصول الصحفيين إلى المناطق المتنازع عليها، وفقًا لبيان صحفي مشترك بعنوان ‘الإعلام السوداني: أربعة أشهر من الانتهاكات'.”
صدر بيان يوم الثلاثاء ١٥ أغسطس من نقابة الصحفيين في السودان ومنظمة الصحفيين لحقوق الإنسان وجهات إعلامية أخرى، يشير إلى أن الصحافيين لا يمكنهم أداء عملهم بأمان بسبب ضعف الحماية وعدم احترام أطراف النزاع لحقوق حرية الصحافة.
وأوضحت البيان: “بعد أن مرت أربعة أشهر على نهاية الحرب، يواجه الصحفيون السودانيون تحديات كبيرة، حيث يكونون في وسط النيران بين الطرفين بسبب الصراع، بالإضافة إلى تواجههم اتهامات بالخيانة والتواطؤ والولاء للأحزاب المختلفة، وقد يتعرضون للاحتجاز أو الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري.”