تتكشف يوميًا ملامح المأساة الإنسانية في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، مع تواتر شهادات الناجين من الحصار الذي فرضته ميليشيا قوات الدعم السريع، في واحدة من أكثر حلقات الحرب السودانية دموية. شهادة النازح محمد الحافظ إبراهيم حامد، التي بثتها قناة الجزيرة مباشر، لا تقدّم مجرد سرد شخصي للنجاة، بل ترسم صورة معقدة لمدينة محاصرة بالجوع والقصف والخطف، في ظل صمت دولي وتورط إقليمي متزايد.
مدينة تحت القصف والجوع
استعاد الحافظ تفاصيل الأيام الأخيرة داخل الفاشر، مشيرًا إلى فقدانه ابن أخيه وابن خاله جراء القصف العشوائي الذي طال الأحياء السكنية والأسواق ومناطق تجمع النازحين. ورغم إصابته الشخصية، اضطر لإسعاف نفسه باستخدام أدوات بسيطة بالقرب من مركز طبي شبه معطل، واصفًا الحياة بأنها “مطاردة دائمة للبقاء”، إذ يفر السكان بين الأزقة وأسوار المنازل، ويعودون لفترات قصيرة قبل تجدد القصف بعنف أكبر، في نزوح داخل المدينة نفسها بلا ملاذ آمن.
مجاعة تُدار بالسلاح
لم يكن القصف وحده العدو، إذ حوّل الحصار الجوع إلى سلاح. وأصبحت وجبة “الأمباز” – مخلفات عصر الزيوت – الغذاء الوحيد لمعظم السكان، مع شحها وارتفاع أسعارها نتيجة منع الإمدادات. كما واجهت محاولات تهريب الطعام تصفيات مباشرة على أيدي الميليشيا، ما يبرز سياسة العقاب الجماعي وإدارة الجوع كأداة لإخضاع المدنيين.
قرار الهروب: بين جوع الداخل وموت الخارج
أمام هذه المعادلة القاتلة، قرر الحافظ وعائلته مغادرة الفاشر. كانت الخطة دقيقة: إرسال الزوجة والأطفال أولاً لاستكشاف طريق آمن، ثم اللحاق لاحقًا مع شقيقيه عند الفجر لتجنب نقاط التفتيش. لكن الهروب جاء بثمن باهظ؛ تفكك أسري، وانقطاع أخبار شقيقين وابن خالة، وبقاء الأم داخل المدينة بلا معرفة مصيرها.
طريق الخروج… ساحة اشتباه وابتزاز
لم تنته المعاناة بمغادرة المدينة، إذ يُعامل القادمون من الفاشر كمشتبه بهم بانتمائهم العسكري أو بحمل السلاح، مع استجوابات مطولة عند كل نقطة مرور، خصوصًا في مناطق صارمة. الرحلة تحولت إلى سلسلة من الإهانات والتوقيفات، حيث تتوقف حرية المدني على مزاج المسلح.
استهداف ممنهج للشباب وطلب الفدية
أبرز ما وثقه الحافظ استهداف الشباب بشكل خاص، عبر احتجازهم لأيام أو أسابيع، ثم الاتصال بالعائلات لطلب فدية مالية ضخمة مقابل الإفراج عنهم، ما يحول الطرق إلى أسواق ابتزاز، ويجسد اقتصاد الحرب الذي تديره الميليشيا. وأوضح أن حافلات تقل شبانًا من منقبي الذهب تُحتجز ويُهان ركابها خلال التفتيش.
هجوم واسع وخسائر مدنية
في أكتوبر 2025، شنت الميليشيا هجومًا واسعًا على الفاشر من عدة محاور، ضمن سلسلة عمليات تجاوزت 260 محاولة منذ بدء الحصار. استهدف القصف مقر الفرقة السادسة مشاة، الأسواق ومناطق النزوح، ما أدى لمقتل أكثر من ألفي مدني في الأيام الأولى ونزوح واسع النطاق.
صمت دولي وتورط إقليمي
رغم بيانات الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا التي طالبت بممرات إنسانية وحذرت من انتهاكات عرقية وقبلية، تؤكد الشهادات الميدانية استمرار الانتهاكات على الأرض. وفي خلفية المشهد، يبرز دور دولة الإمارات العربية المتحدة في دعم ميليشيا الدعم السريع سياسيًا ولوجستيًا، ما يضاعف كلفة الحرب الإنسانية ويمنح الميليشيا القدرة على إدارة الحصار والخطف والقتل.
شهادة تُدين
قصة محمد الحافظ نموذج مأساوي لمدينة تُركت فريسة لميليشيا تمارس القتل والجوع والخطف. إنها شهادة تُدين الجناة وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، فضلاً عن فضح الدور الإقليمي في تحويل دارفور إلى ساحة جرائم بلا عقاب. الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها جرح مفتوح يطالب بالعدالة قبل أن يبتلع ما تبقى من حياة سكانها.




