تقارير غربية تكشف انهيار الروابط بين الإمارات والغرب بعد حرب السودان مع اتهامات بتسليح الدعم السريع المتورطة في الإبادة والاغتصاب
تحوّل حضور الإمارات في الساحة الدولية خلال العقدين الماضيين إلى نموذج متكامل لطموحات سياسية واقتصادية متغوّلة، تقودها أسرة آل نهيان التي راكمت ثروات هائلة ونفوذًا استثنائيًا داخل العواصم الغربية، حتى غدت الشخصيات الحاكمة في أبو ظبي من أكثر الدوائر تأثيرًا في واشنطن ولندن وشركات التكنولوجيا العملاقة. إلا أنّ هذا النفوذ الذي صُنع بعناية عبر سنوات من بناء الشراكات، وتمويل المشاريع، وفتح الأبواب أمام الشركات الأميركية والأوروبية، بدأ يتعرض لهزة غير مسبوقة مع اتساع حجم الاتهامات الموجّهة للإمارات بشأن دورها في الحرب الأهلية السودانية، وبالتحديد دعمها المزعوم لميليشيا قوات الدعم السريع المسؤولة عن واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في القرن الجاري.
في الوقت الذي يقدّم فيه النظام الإماراتي نفسه باعتباره دولة حداثية مستقرة، ورائدة في الاستثمار والذكاء الاصطناعي والتنويع الاقتصادي، تكشف التقارير الدولية عن صورة معاكسة تمامًا: دولة تعمل خلف الستار على تغذية حروب أهلية، وتمويل ميليشيات متهمة بالإبادة الجماعية، والعبث بموازين دول منهارة لتأمين مصالح تجارية، وممرات استراتيجية، وثروات معدنية وزراعية. هذه المفارقة بين الصورة التسويقية البراقة والحقيقة القاتمة بدأت تنعكس مباشرة على علاقات الإمارات مع الغرب، إذ يجد صانع القرار الأميركي والبريطاني نفسه للمرة الأولى أمام معضلة سياسية: كيف يواصل معاملة الإمارات بوصفها شريكًا استراتيجيًا بينما تتراكم الأدلة على تورطها في حرب خلّفت مئات آلاف القتلى ونسبًا كارثية من التهجير والمجاعة؟
تبرز في صدارة المشهد أسماء ثلاثة من الإخوة الأقوياء في عائلة آل نهيان: محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للدولة ورأس شبكتها السياسية والعسكرية؛ طحنون بن زايد، رجل المخابرات والاقتصاد وصاحب النفوذ العميق داخل شركات التكنولوجيا الأميركية؛ ومنصور بن زايد، صاحب الشبكة الرياضية والإعلامية الواسعة وعلاقات الظل الممتدة مع قادة الميليشيات في أفريقيا. هؤلاء الإخوة – الذين يصفهم التقرير الغربي بأنهم ربما أغنى “إخوة” في العالم – تمكّنوا من تحويل الإمارات من اتحاد قبائل هامشي قبل 50 عامًا إلى قوة جيوسياسية ذات نفوذ بالغ، ترتكز إلى ثروة نفطية هائلة وشهية مفتوحة للتمدد الخارجي. لكن هذه القوة نفسها هي التي جعلت الإمارات في قلب الاتهامات اليوم، بعد أن تكشّفت علاقات مباشرة وغير مباشرة تربط النظام الإماراتي بقوات الدعم السريع في السودان.
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، بدأ يتردد في الأوساط الدبلوماسية والاستخباراتية الغربية أن الإمارات تلعب دورًا مركزيًا في تسليح قوات الدعم السريع، وأنها تمدّ حليفها محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالمسيّرات والمدافع والذخائر عبر مسارات لوجستية دقيقة. الإمارات تنفي قطعًا، لكنّ الأدلة التي تراكمت – من صور الأقمار الصناعية، وشهادات الناجين، وتقارير الأمم المتحدة، والتقديرات الاستخباراتية – دفعت كثيرين إلى الجهر بأن الحرب المدمّرة التي حصدت أكثر من 400 ألف ضحية لم تكن ممكنة دون تدخل خارجي تقوده أبو ظبي. ووصل الأمر إلى أن مسؤولين غربيين تحدثوا عن اتصالات مباشرة تربط حميدتي بكبار قادة الإمارات، وعن اجتماعات جرت قبل اندلاع الحرب بفترة قصيرة بين منصور بن زايد وقائد الميليشيا المتهم بجرائم ضد الإنسانية.
تكشف هذه المعلومات، عن تناقض بنيوي في السياسة الخارجية الإماراتية: دولة تتشدّق بالاستقرار، وتزعم محاربة الإرهاب، وتتباهى بسياستها “العقلانية”، بينما تسعى في الواقع إلى خلق مناطق نفوذ بالقوة، وإعادة تشكيل خرائط إقليمية عبر دعم مجموعات مسلحة خارج إطار الدول. فالنفوذ الإماراتي في أفريقيا اليوم لم يعد مجرد استثمارات، بل مشروع توسعي متكامل يعتمد على الاستحواذ على الأراضي الزراعية، وشراء المناجم، والسيطرة على الموانئ والممرات البحرية الحيوية، وتوجيه موازين السلطة من خلال التحالف مع رجال الحرب. ويتجلى هذا بوضوح في صعود شركة “إنترناشونال هولدينغ كومباني” (IHC)، التي تحوّلت في أقل من عشر سنوات من شركة صغيرة إلى تكتل اقتصادي ضخم بقيمة تتجاوز شركات غربية عملاقة. هذه الشركة التي يقودها طحنون بن زايد تتصرف وفق استراتيجيات أقرب إلى نموذج “شركة الهند الشرقية” الاستعمارية: توسع عدواني، واستحواذ على موارد هائلة، وتغلغل داخل الاقتصادات الضعيفة، تحت غطاء “التنمية والاستثمار”.
وفي قلب هذه العمليات تتجلى شكاوى متصاعدة من دول أفريقية تتهم الإمارات بشن نسخة جديدة من الاستعمار الاقتصادي، عبر الاستيلاء على الأراضي الخصبة وتوجيه الإنتاج الزراعي إلى أبو ظبي بدلًا من الأسواق المحلية، ونقل الموارد المعدنية الخام إلى الإمارات، والسيطرة على الموانئ التي تشكل شريان التجارة الإقليمية. ليس غريبًا إذًا أن يصف محللون هذه الظاهرة بأنها شكل جديد من الاستغلال، يعمل على إفقار المجتمعات الهشة بينما يضخ الثروة إلى جيوب عائلة واحدة تتحكم في مقدرات الدولة ومواردها.
لكنّ التدخل الإماراتي في أفريقيا لم يعد يقتصر على الاقتصاد فحسب، بل امتدّ إلى المجال العسكري والسياسي، كما ظهر في ليبيا عبر دعم الجنرال خليفة حفتر بالسلاح والمال، وفي اليمن عبر تمويل فصائل مسلحة خارج سلطة الدولة، وفي السودان حيث تتهم أبو ظبي بالوقوف خلف ميليشيا تسببت في إبادة جماعية في دارفور. وتُظهر التقارير الدولية أن علاقات محمد بن زايد مع قادة هذه المجموعات ليست مجرد اتصالات دبلوماسية، بل شبكات نفوذ تنسجها الإمارات منذ سنوات لبناء أذرع عسكرية وسياسية تخدم مصالحها الإقليمية.
ورغم فداحة الاتهامات، فإنّ رد الفعل الغربي لا يزال باردًا، بل متواطئًا في كثير من الأحيان. فالإمارات بالنسبة لواشنطن ليست مجرد دولة خليجية، بل محور نفوذ يرتبط بالشركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى، ومركز مالي ضخم، وشريك في مشاريع الطاقة، ومفتاح أساسي لتمرير السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. طحنون بن زايد، على سبيل المثال، يملك علاقات متينة مع قادة شركات مثل Nvidia وMicrosoft وOpenAI، ويُعتبر لاعبًا مهمًا في سباق الذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعل الضغط عليه سياسيًا شبه مستحيل. كذلك فإن محمد بن زايد يتمتع بعلاقة استثنائية مع دونالد ترامب، الذي وصفه سابقًا بـ”الرجل المدهش”، واستضافه في لقاءات خاصة، بينما يتمتع منصور بن زايد بحظوة كبيرة داخل الأوساط الرياضية والإعلامية الأوروبية.
هذا التشابك بين النفوذ الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي جعل الحكومات الغربية تتردد في توجيه اتهام مباشر للإمارات، رغم معرفتها الكاملة بما يجري في السودان وليبيا واليمن. فالغرب، كما يلمّح التقرير، يفضّل الحفاظ على شراكته مع أبو ظبي، حتى لو كان الثمن التغاضي عن دورها في واحدة من أبشع النكبات الإنسانية في العصر الحديث.
ورغم هذا الصمت، تتعالى داخل دوائر القرار أصوات تحذّر من أن استمرار هذا النهج سيقوّض مصداقية الغرب الأخلاقية، ويكشف تواطؤه في مأساة السودان التي باتت أكبر كارثة إنسانية على وجه الأرض اليوم. فالتقارير الدولية التي وثّقت الاغتصاب الجماعي، والقتل على الهوية، وتدمير المدن، وانتشار المجاعة، باتت تضع النظام الإماراتي أمام محكمة الرأي العام العالمي، مهما حاولت واشنطن ولندن حماية حليفهما النفطي.
ما يقدّمه هذا التقرير هو صورة فاضحة لنظام إماراتي يستخدم ثروته ونفوذه لشراء الشرعية في الغرب بينما يبني على الجانب الآخر إمبراطورية نفوذ عابرة للحدود، تعتمد على دعم الميليشيات، ونهب الموارد، وتخريب الدول الهشة، وإعادة إنتاج أنماط استعمارية بواجهة عصرية مصقولة. والنتيجة النهائية هي أنّ العاصفة التي تهبّ اليوم على آل نهيان ليست مجرد أزمة إعلامية، بل تهديد مباشر لمشروع النفوذ الذي بنوه على مدى عقدين، بعدما تكشّفت خيوط تدخلاتهم في حرب سودانية تتحول بسرعة إلى وصمة تاريخية ستظل تطارد الإمارات مهما حاولت إخفاءها خلف واجهات الرفاهية، والاستثمارات، وبرجوازية التكنولوجيا الحديثة.




